«حيث الرياح» تهتف أو توشوش العالم صاخب
لا شيء يدلّ إلى علاقات اجتماعية أو أرضية جارية بين بشر عاديين في عنوان الرواية «هاتف الرياح». الأرجح أن يكون هذا عنوانا لنص شعري، أو تأمّلي، أو صوفي إشراقي. ولا يخيّب العنوانُ الصفحات التي تعقبه من الكتاب، حيث الاستغراق في رثاء الرجل «صادق» الذي أنهض أفكارا وأحاسيس عميقة في «مريانا»، البادية كمريدة له. لا حدث في تلك الصفحات الكثيرة. لا حكاية أو جزء من حكاية. فقط استرسال متماد في رفع الرجل إلى مصاف المعبود.
نعرف متأخرين، حين تكون الرواية مشرفة على نهايتها، أن الرجل ذاك كان عاشقا لمريانا، لكن من دون إلماح إلى ذلك. أرجأ الاعتراف بذلك إلى ما بعد موته، وذلك عبر رسالة حُملت إلى مريانا. سنكون، نحن قرّاء الرواية، تواقين إلى إضفاء واقعية ما على الوصف، إذ نسرع إلى الظنّ أن تكتم الرجل عن عشقه يرجع إلى وقوعه متأخّرا فيه، أي كونه في عمر السبعين، في ما معشوقته هي في العمر الذي تنطبق عليها الأوصاف التي تعطى عادة لما لا يزال في طور التكوّن البريء.
لا حدث إذن في تلك الصفحات. لا تعريف بالرجل (الذي هو موضوعها) خارج الكلام المسترسل عن حكمته وإدراكه. هو بلا شكل خارجي، بلا مكانة اجتماعية، ولا أصدقاء له ولا حياة أو وقائع من حياة يمكن أن تثبّت كيانه الشخصي، وتزيحه عن طيفيّته. القراءة عن شخصية مثل هذه، في سرد مثل هذا، تحتاج إلى قدر من التركيز والانتظار النهِم لشيء يحرّك ذاك العالم الراكد. لكننا لاحقا سنجد ذلك عند شخصيات أخرى: رياض، عشيق مريانا الموجود في حياة أكثر واقعية والممثّل، بين أشياء أخرى، لموقف مستجد في الحياة المعيشة. يريد رياض أن يوقف علاقته بمريانا وهو في أوج تعلّقه بها وتعلّقها به. أما السبب في ذلك فعدم قبوله بأن ينجب ولدا من امرأة نشأت في دار رعاية، لكنه يعد بأنه، بعد زواجه وإنجابه، سيعود إلى علاقته بها. شخصية مثل رياض، أو ما يمثّله هذا العاشق، تطرح السؤال المحيّر لقارئها عن انشطارها بين ما هو مادّي وما هو غير ذلك. في الرواية يبث ذلك التراوح بين المجالين تحريكا حكائيا أرى أن الكتابة الروائية الحديثة راغبة في الذهاب فيه قدما حتى ليكاد ما نقرأه منها تتابعا لاهثا للأحداث.
نشعر بأننا أمام رواية جمعت أنماطا من السرد في عملها وراحت تنقّل قرّاءها بينها مفاجئة إياهم عند كل من منعطفاتها.
ما يعدّد نبرة الكتابة ويغيّر وتيرتها شخصيةُ «ليث»، العشيق تحت التجربة، الذي يُختبر إن كان قادرا على ملء الفراغ الذي خلّفه رياض برحيله. وإذ تطلق الرواية صفة الجنون على بعض شخصياتها، فإن «ليث» هذا هو الأكثر جنونا بينها، رغم أنه الأكثر هامشية في سياق الرواية. هنا نقرأ الكاتبة مريم مشتاوي وهي تكتب بحبر آخر حيث يصير الحكي مراوغا على لسان ليث، ومختلطا بين توهم الرؤية والرؤية الفعلية، كما بين المزاح والسخرية، والتصديق وعدم التصديق في ما يختص بعلاقته هو برياض، كما، من ناحية أخرى روايته الغريبة عن الديك موريس، وعن تبديله اسمه من ليث إلى إلى كوكوكو. تلك الحوارات مع هذه الشخصية تضيء مواضعها في الرواية فتجعلها حلوة ومخابثة، كما تشير إلى أن ما سبق من ركود سردي، خصوصا في الصفحات المتعلّقة بصادق كان مقصودا.
جميل ذلك الفاصل الذي يذكر فيه ليث أن الرجل الواقف على الجسر، متأملا ، هو رياض، ومثل ذلك كلامه الخارج عن جلوسه في المقهى، كشخص مقترح لإقامة علاقة، حيث يقول إن أباه من أهم لاعبي كرة القدم في العالم «وعُلّقت صوره على الحائط الممتدّ بين أمريكا والمكسيك». كما هناك شخصيات متعارضة في جنون بعضها وحكمة بعضها الآخر والفجاجة الواقعية لبعضها الثالث، كذلك تُداخل الرواية في مسارها عوالم لا تقل تعارضا. فبين عيش البطلة في لندن (نفاجأ مثلا أن لا تقف الكاتبة على الموضوع الأكثر سخونة في روايات ما بعد الهجرة إلى أوروبا، حيث لا تذهب روايتها إلى تلك الإشكالية في العيش بين هنا وهناك، بل تبدو لندن مجرّد مكان، بلا صفات مفارقة، لكن ربما كان المكان الآخر، الذي هو الشرق، قد حضر في الشعور التصوّفي والسحري، وحضور ما هو غير واقعي، ما يناقض مكان العيش، الغربي) وبين الشخصيات المشبعة بالسحر والخرافة وتدخّل الجان في مفاصل العيش، وكذلك الظهور الغريب لتلك المرأة العجوز التي لا تلبث أن تظهر حتى تختفي. مع كل ذلك نشعر بأننا أمام رواية جمعت أنماطا من السرد في عملها وراحت تنقّل قرّاءها بينها مفاجئة إياهم عند كل من منعطفاتها.
رواية مريم مشتاوي «هاتف الرياح» صدرت عن «المركز الثقافي للكتاب.