أنا الابنة الوحيدة لثيو الياس مشتاوي..
أبي رجل مثقف ومهندس ميكانيكي عاش حياته كلها في أمريكا...
علاقتي به كانت غريبة من نوعها... يجمعنا الكثير ويفرقنا الكثير ولكني أحبه ليس فقط لأنه جزء من كياني بل لأني كنت معجبة بروحه المتمردة الحرة المحلّقة وبثقافته الشاسعة.. كنا نتكلم بالفلسفة والشعر والحياة.. أحاديثنا الطويلة والعميقة لم تكن تشبه أحاديثي مع الآخرين في شيء..
عندما كنت أسافر إليه كنا نجلس معاً في فندق جورج واشنطن لأيام نتكلم ولا نشعر بالوقت.. نتكلم في كل شيء.. ونحلل كل شيء...
كان صديقي وكنت أخبره بكل ما أشعر به من دون خوف أو تردد.. كان يعرف أسراري كلها... وخبايا روحي..
أبي ليس كباقي الآباء ولا يشبههم في شيء... إنه ثيو مشتاوي!
منذ أيام علمت أنه في غرفة الإنعاش فاتصلت بطبيبه .. ويدعى الدكتور شمّا .. أجاب عن كل أسئلتي بمهنية عالية وصبر شديد.. سألته نفس السؤال أكثر من مرة ..
هل سيكون أبي بخير؟
وكان في كل مرة يجيبني بنفس الهدوء والرصانة والطيبة ويشرح لي تفاصيل الحالة..
أنا في لندن وأبي في واشنطن والسفر ممنوع ...
تدهورت حالة أبي بسرعة واتصل بي الطبيب من تلفونه الخاص. لم يكترث أنه يدفع من جيبه مكالمة دولية... لم يكن مجبراً على ذلك ...ولكن إنسانيته دفعته للاتصال...
قال لي إن أبي لن يعيش طويلاً... سألته إن كان بإمكاني الاتصال من موبايلي على أي هاتف وأن يترك الخط مفتوحاً بيني وبين أبي حتى يأخذ الله أمانته...
هاتف رياح آخر يوصلني بدقات قلبه...
طلب ربما غريب .. أو كي أكون أكثر دقة في التعبير : طلب مستحيل .. من سيرضى أن يتخلى عن هاتفه لخمس أو عشر ساعات وربما أكثر ليضعه إلى جانب مريض في غرفة إنعاش؟
عم الصمت قليلاً بيني وبين الطبيب ثم قال لي:
عندي حل أفضل...هل معك أي فون؟
قلت له : نعم ..
فأجابني بسرعة: سأتصل بك من لاب توب على الفايس تايم ويمكنك أن تجلسي مع والدك طوال الليل إن أردت ..
جلست على سريري أنتظر الاتصال.. وفجأة رن الموبايل من جديد ووجدت نفسي أمام الدكتور شما وفي غرفة الإنعاش.. وأنا وحيدة في غرفتي في لندن .. لكننا مشينا معاً نحو سرير أبي...
رأيت أبي أمامي.. وسمعت الطبيب يقول له: يا ثيو ابنتك مريم معنا..
رفع أبي عينيه .. كنت أشهق في البكاء وأكرر فقط كلمة " أحبك".. رددتها ألف مرة.
أعرف أنه عرفني وسمع ما قلته..
رأيت الدموع تغزل في عينيه المتعبتين قصائد من ماء ونور لطالما قرأها لي في الماضي..
جلست قربه لساعات وأنا أراقب أنفاسه .. وأعدها نفساً نفساً..
جاء الكاهن غرفته وصلينا معاً... بعد حوالي أربع ساعات شهق أبي شهقته الأخيرة صرخت: مات أبي
أسرع الطبيب فحصه وقال لي:
آسف ثيو فارقنا..
لا.. أبي لا يموت.. روحه معي.. ساكنة داخلي..
اليوم كتبت رسالة طويلة للدكتور شمّا..
هذا الطبيب هدية من السماء رفعني إلى أحضان أبي لأعيش معه لحظاته الأخيرة رغم المسافات والإغلاق والوباء...
طوبى لطبيب يحمل جناحي ملاك !