للعصافير المهاجرة
أبي العجوز شيخ البحر وصديق الرياح وراكب الموج بدأت صورته تتلاشى شيئًا فشيئًا في المياه وكأنه أراد أن يحلّي ماء البحر ويطرح لحيته بساطًا للعصافير المهاجرة كي تستريح قليلًا قبل أن تعود لتفرش أجنحتها بين السماء والأرض، كنت أراه يتحلل ويختفي تدريجًا ولحيته تتمسك بالهواء خوفًا من السقوط، وجهه صغر حتى أصبح بحجم برتقالة شديدة الصفار، وبدأت أشم رائحة الموت القادمة وأرى الذباب يتكوَّم فوق جسده النحيل. ففي زيارتي الأخيرة له حاولت أن أضمه لكنه لم يستطع أن يتحرك من حدة التشنج في أطراف جسده، حينها شعرت وكأن أبي أصبح قطعة خشبية صلبة يصعب تحريكها.
قلت له إن من الأفضل أن يعود معي إلى المنزل لكنه رفض وأصرّ على البقاء فيما يسميه مناخه الطبيعي. كان يحاول أن يقاوم جفاف عينيه ويتمسك بساعاته القليلة المتبقية! أين هو إله البحر بوسيدن؟ وكيف يترك صديقه الوفي فريسة الذباب والضعف والفناء؟
رفض أبي الخروج من مركبه وطلب مني أن أعود إلى البيت لأنه، وبحسب قوله، ينتظر مجيء بوسيدن بعربته ليصحبه إلى ميناء طرابلس حيث الحياة الأبدية تنتظره وأصر على مغادرتي الشاطئ. كان يرجوني أن أتركه كي يأتي صديقه، بوسيدن، وأنه لن يحضر إن بقيت. عانقته طويلًا وقبّلته وشممته ومشيت. فما نفع أن أقهر والدي وأخبره أن كل ما يقوله تهيؤات لا صحة لها؟ وما نفع أن أحرق عالمه الذي عاش في كنفه سنين؟ ومن أكون كي أختار نهايته؟ لم يكن سهلًا أن أمشي وأنا أدرك تمامًا أنها لحظاتنا الأخيرة، لكنني مشيت ولَم أبتعد كثيرًا حتى عدت إليه وأنا أجري، ركعت تحت رجليه ونظرت في عينيه ورجوته وأنا أشهق بالبكاء، أبي أرجوك يا أبي تعال معي آخذك إلى المستشفى الكبير أرجوك، لكنه وضع يده فوق يدي وقال:
- بوسيدن آت يا صغيرتي وأنا عشت في عالمه ولا يمكنني أن أخون عهدي معه.
#من_روايتي_الجديدة_تيريزا_أكاديا