دخلنا قاعة مستديرة عالية السقف وكان في آخرها درج داخلي ضيق يؤدي إلى طابق علوي، وإلى اليمين مزار فيه صورة كبيرة للسيدة العذراء وصينية مستديرة واسعة تحتوي ترابًا أبيض اللون توضع فيها الشموع. لكننا لم نقترب من الدرج أو المزار، بل توجهنا نحو شمال القاعة لندخل ممرًا طويلًا يشبه النفق أو الدهليز تقتحمه من الجهتين أبواب صغيرة متتالية تبدو كأنها أبواب غرف الراهبات. مشيت خلف عمتي إلى آخر الممر كان هناك باب خشبي مائل إلى الاحمرار مرتفع جدًّا. وإلى جواره درج يقود إلى الأسفل ربما نحو دهاليز أخرى. توقفت غريس نويل أمام الباب قائلة:
أخيرًا سنجلس معًا على انفراد. دسّت يدها الصغيرة بين الزرين اللذين يحرسان أعلى صدرها وتناولت مفتاحًا كانت تخبئه داخل صدريتها وفتحت الباب بهدوء، ثم جلست على الصوفا الخشبية القريبة من الباب ودعتني لأجلس قربها. كنت أجول بنظري في غرفة عمتي التي تبدو غاية في الترتيب والنظافة، وقلت لها بشكل تلقائي:
- عمتي كم تليق بك هذه الغرفة الدافئة والمنظمة والأليفة،
فردّت عليّ مبتسمة:
- لا أسمح لأحد بدخولها، أرتبها بنفسي لأنها خلوتي مع القديسة ريتا، وبما أنك هديتها أستقبلك في صومعتي المغلقة.
كان هناك طاولة صغيرة إلى جانب سريرها وضعت عليها تمثالًا للقديسة ريتا وشموعًا والكتاب المقدس.
وضعت غريس نويل يدها على وجهي وراحت تتحسسني كأنها تكتشفني للمرة الأولى، وقالت:
- تيريزا أحضري لي لو سمحت الكتاب الموجود على الطاولة، فأنا أشعر بأنك تَعِبة وأريد أن أقرأ لك آية تريحك. ذهبت وأحضرت لها الكتاب وجلست إلى جانبها من جديد، ففتحته وطلبت مني أن أردد معها:
- المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق.
شعرت بالاختناق ولم أستطع أن أتابع، لكن عمتي أكملت بصوت أعلى وكأنها تصر على أن يصل صوتها إلى السماء:
- المحبة تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء، المحبة لا تسقط أبدًا؛
كنت أرتجف من حدة التأثر ليس من قوة وقع الكلمات على روحي، بل لأن الصفحة التي كانت تقرأ منها ليس فيها كلمات بل كانت مليئة بنقاط بارزة تتحسسها بأصابعها، وما إن أنهت قراءة الآية حتى بدأت بصلاتها الأخرى، لم أكن أسمع ما تقوله من حدة ذهولي، كان ذهني شاردًا بعمتي الكفيفة التي كانت ترى أفضل مني منذ أن التقيتها في المطار، كان فيها نور أقوى من نور البصر، عمتي التي أحببتها قبل أن أتعرف إليها لم تلمِّح يومًا أنها عمياء ولم تشكُ لي قطّ من ضعف يقيدها، كانت حرة طليقة تمشي بثقة وكأن الأماكن كلها تخضع لطيبتها وتتحرك بحسب خطواتها. ركعت عند قدميها وبدأت أشهق بالبكاء وأقول وأنا شبه فاقدة للوعي:
- ما كانت تنقصني إلا طيبتك لكي ينفجر قلبي المحقون بالأوجاع. عمتي كم أتمنى أن أكونك! كم أتمنى أن أرى الأشياء ببصيرتك! فأنا أعيش داخل غيمة سوداء منذ ولادتي ولا أعرف مَن هو أبي شيخ البحر، ولا أعرف حقيقة أنجيليا ولا أعرف حقيقة مَن أحببت؛ كلهم رحلوا من دون أن أراهم، وأنت... أنت يا عمتي ترين كل شيء... لِمَ أتيت الآن بنورك؟ أنا تَعِبة تَعِبة جدًّا يا غريس نويل أتوسل إليك ألّا تضيئي عتمتي كي لا أتألم أكثر.